الأحد، أكتوبر 12، 2008

الإكتشافات الجغرافية الكبرى ونتائجها

المقدّمة: عرفت الملاحة البحرية منذ منتصف القرن XV تطوّرات تقنية متلاحقة، فانطلقت عدّة رحلات استكشافية هدفها عبور بحر الظّلمات (المحيط الأطلسي). ولم يمض قرن من الزّمن، حتّى تمكّن الأوروبيون من العثور على أراضي جديدة واكتشاف طرق لم تكن معروفة من قبل. فانتقل بذلك مركز ثقل الملاحة البحرية من البحر المتوسّط إلى المحيط الأطلسي.

1) الظّروف الملائمة لتنظيم الرّحلات:
‌أ- الدّوافع:
البحث عن مسالك جديدة للوصول إلى الهند: بعد فترة انكماش طويلة، انتقل الإقتصاد الأوروبي، منذ أواسط القرن XV إلى مرحلة الإنتعاش. وتحسّن الوضع الصحيّ وزاد عدد سكّان أوروبا الغربية (29 بلدا) من 57,268 مليون نسمة (سنة 1500) إلى 73,778 مليون نسمة (سنة 1600) فتنامى الطّلب على المعادن النفيسة (الفضة والذهب والنحاس) والمواد الثمينة (مثل التوابل والسكّر والحرير...). وقد ظلّت بلاد الهند (جنوب شرق آسيا)، إلى جناب بلاد السودان (افريقا جنوب الصحراء) المصدر الرئيسي لهذه المواد. وكان المسلمون يحكمون السيطرة على التجارة وأسعارها ومسالكها بين أوروبا من جهة وآسيا وافريقيا جنوب الصحراء من جهة أخرى ويجنون من وراء ذلك أرباحا طائلة على حساب تجار أوروبا. ومن ثمّة كان سعي الأوروبيين، وخاصّة منهم الإسبان والبرتغاليون، إلى البحث عن مسالك بحرية بديلة عن الطّرقات المعهودة التي سيطر عليها المسلمون.
رغبة الملوك في دعم قوة الدولة ومواردها: رأى ملوك أوروبا في الرحلات الإستكشافية والنتائج المرتقبة منها دعامة لعظمة دولهم بفضل ما ستوفّره من موارد إضافية وتوسيع لرقعة نفوذهم. ومن أشهر الملوك الذّين شجّعوا الرحلات:
الأمير البرتغالي هنري الملاّح Henri le navigateur (1394-1460) الذّي تبنّى وموّل استكشاف سواحل غرب إفريقيا [دون المشاركة الفعلية في أيّ منها] بداية من 1420 (تاريخ استكشاف مدار Madère ) إلى غاية سنة 1456 (تاريخ بلوغ مصب نهر غمبيا على سواحل السنغال).
فرديناند الثاني Ferdinand II ملك أرغونة Argon (1452-1516) وزوجته إيزابيلا Isabella ملكة قشتالة Castilla (1451-1504) الملقّبين بالكاثولكيين واللّذان رعيا رحلات المستكشف الإيطالي كريستوف كولومب Cristophe Colomb وحركة التوسّع الإسباني تتويجا لمشروعهما المشترك في القضاء على المسلمين بعد أن أفلحا في استرجاع آخر ثغور الإسلام في الأندلس: غرناطة سنة 1492.
نشر المسيحية: إعتبرت الكنيسة الرحلات وسيلة للتصدّي لتوسّع دولة الخلافة الإسلامية: الإمبراطورية العثمانية. كما رأت فيها وسيلة لتنصير الشعوب وتعزيز صفوف الأتباع وما يترتّب عن ذلك من زيادة عائداتها واسترجاعا لثقة المسيحيين الأوروبين بها بعد فشل الحملات الصّليبية (1096-1270 م). وقد شجّعت الكنيسة على تنظيم الرحلات الاستكشافية رغم تناقض الأسس العلمية المستندة إليها بعضها مع العلوم الكنسيّة (مثل مبدأ كروية الأرض).
‌ب- العوامل المساعدة:
تطوّر تقنيات الملاحة البحرية
رواج نظرية كروية الأرض
2) أهمّ الرّحلات:
‌أ- الرّحلات البرتغالية
المرحلة الأولى
المرحلة الثانية

‌ب- الرّحلات الإسبانية: بعد أن استعاد الإسبان استقرار بلادهم السياسي، شرعوا في تنفيذ مشروعهم الرّامي إلى بلوغ الهند (جنوب شرق آسيا) باتّباع مسلك يتّجه نحو الغرب. فقد قاد كريستوف كولومب أربع رحلات متتالية بين 1492 و 1504 أفضت إلى بلوغ أراضي اعتقد خطأ أنّها بلاد الهند حيث أثبت الرّحالة الإيطالي أمريڤو فاسبوتشي (Amérigo Vespucci) لاحقا أنّها جزء من قارة جديدة سُميّت باسمه سنة 1507 فكانت أمريكا (América).

--------------------------------------------------------------------------------------
كريستوف كولومب: من مواليد جنوة أحد أبرز المدن المصارف الإيطالية والأوروبية، سنة 1451. خبر الملاحة في المتوسّط وبين ايسلندة وسواحل إفريقيا الغربية. استقرّ في لشبونة سنة 1476 حيث سبقه إليها شقيقه راسم الخرائط برتيليمي. تزوّج سنة 1479 من حاكم جزيرة Porto Santo. عرض مشروعه بلوغ الهند من الغرب، بداية، على ملك البرتغال Jean II le Parfait سنة 1484 لكنّه رُفض بسبب أخطاء حسابية واستكمال البرتغال استعداداتها للدوران حول رأس الرجاء الصالح بينما لقي الترحيب في اسبانيا - رغم تحفّظ البعض - حيث أبرم اتّفاقا مع عاهلي اسبانيا يصبح بموجب قائدا لأسطول البحر المحيط (Amiral de la mer Océane) ونائب الملك على جميع الأراضي التّي يكتشفها فضلا عن عُشر (10/1) جميع المعادن في الأراضي الواقعة تحت سيادته.
الرحلة الأولى (3 أوت 1492 - جانفي 1493): انطلقت من ميناء بالوس (Palos) الإسباني على متن 3 سفن منها سانتا ماريا (Santa María) بقيادته وبينتا (Pinta) ونينا (Niña) بقيادة الملاّح الثري (Martín Alonzo Pinzón) وشقيقه (Vencente Yáñez Pinzón) وفي صبيحة يوم 12 أكتوبر 1492 حطّت السفن رحالها بـغواناهاني (Guanahaní) [ ووفق أحدث الدراسات Samana Cay ] احدى جزر الباهاماس (Bahamas) معلنا إيّاها أمام حشد من السكّان الأصليين ملكا لإسبانيا وأطلق عليها إسم (San Salvador) أي القدّيس المنقذ. ومضى إلى استطلاع بقية الجزر فحلّ بكوبا (وسمّاها كولومب Juana نسبة إلى أميرة اسبانية) وLa Española التّي تحوّلت لاحقا إلى Hispaniola (وتضمّ اليوم جمهورية الدومينيكان وهايتي). وبفضل حُطام سانتا ماريا التّي غرقت قُبالة سواحل Hispaniola خلال شهر ديسمبر 1492، شيّد كولومب قلعة تضمّ حامية من أقلّ من 40 شخصا سُميت Navidad. وأقفل الشّهر الموالي (جانفي 1493) عائدا مكتشفا بذلك عالما جديدا وأقصر الطّرق الملاحية إليه.
الرحلة الثانية (سبتمبر 1493 - أكتوبر 1495): وهي أكثر طموحا من الأولى حيث ضمّت 17 مركبا و1.500 بحار واستهدفت الدومينيكان والغوادلوب وأنتيغا. ففي Hispaniola (الدومينيكان) وبالقرب من Cap Isabella اليوم، أقام كولومب أوّل مستعمرة أوروبية في العالم الجديد (مستعمرة Isabella) في نوفمبر 1493. ثمّ أبحر بمحاذاة سواحل كوبا إلى غاية جزيرة الجاماييك. وواجه كولومب ترحيب الأهالي الهنود بعدوانية. ففي أعقاب أحد انتصاراته على المحليين في مارس 1495 أرسل أسراه إلى إسبانيا لبيعهم كعبيد ممّا أثار إمتعاض الملكة إيزابيلا التّي قرّرت إعادة الأحياء منهم إلى موطنهم. وفي أعقاب رحلة تقصّي حقائق أثناء تشييد العاصمة الجديدة بسان دومينغ Saint-Domingue، توصّلت لجنة ملكية إلى استنتاجات تنتقد سياسة كولومب. فقرّر هذا الأخير العودة إلى اسبانيا لمقابلة عاهليها وتبرير سياسته تلك تاركا أخاه برتيليمي مكانه. ولكن دون جدوى حيث تراجع التأييد لمشروعه وتطلّبت عودته إلى العالم الجديد زهاء سنتين من الزمن على متن 8 مراكب فحسب.
الرحلة الثالثة (30 ماي 1498 - 23 أوت 1500): حطّ خلالها بجزيرة ترينيداد Trinidad تيمّنا بـLa Sainte - Trinité ولمح سواحل فينيزويلا حاليا قبل أنّ ينزل بمصبّ أبرز أنهارها L’Orénoque (أحد أطول أنهار أمريكا الجنوبية: 2560 كلم) ولا حظ كولومب في يومياته آنذاك أنّه اكتشف "عالما جديدا" يجهله الأوروبيون ويوحي بجنّة أرضية. وعند عودته إلى سان دومينغ أدرك أنّ قسما من المستوطنين قد انتفض ضدّ شقيقه برتيليمي. وبموازاة ذلك نجح خصومه باسبانيا في إقناع صاحبا العرش بإقالته من منصبه في ماي 1499. وفي 23 أوت 1500 حلّ الحاكم الجديد فرانشيسكو دي بوباديلا (Francesco De Bobadilla) وأوقف الشقيقين كولومب وأرسلهما إلى إسبانيا حيث تمّ العفو عنهما دون السّماح لهما بالعودة إلى منصبهما.
ý الرّحلة الرّابعة (ماي 1502-جوان 1504): بعد أنّ توصّل فاسكو دي ڤاما إلى بلوغ الهند عبر الشرق، سمح عاهلا إسبانيا لكريستوف كولومب باستئناف رحلاته غربا لبلوغ ذات الهدف دون الإذن له بالنّزول في Hispaniola. وبعد صعوبات جمّة ظلّ كولومب يبحر بموازاة سواحل أمريكا الوسطى طيلة 6 أشهر بحثا عن ممرّ نحو الغرب. فتعرّف على الهوندوراس وأقام في جانفي 1503 مستوطنة ببنما في انتظار نجدة Hispaniola له قبل أن يقفل عائدا سنة بعد طول انتظار.
ولم يتمكّن كولومب من الإبحار مجدّدا، حيث ألمّ به المرض آخر أيّام حياته التّي أمضاها يأمل استرجاع إمتيازاته رغم ثرائه الفاحش. وتوفّي يوم 20 ماي 1506 في Valladolid. ودفن في اشبيلية Seville قبل أن ينقل رفاته مرارا إلى سان دومينغ ثمّ هافانا قبل العودة إلى اشبيلية في 1899 [ رغم أنّ بعض المؤرخين يعتقد أنّ رفاته لازالت في سان دومينغ ].

وفي سنة 1519 حاول الرحّالة البرتغالي فرديناند دي ماجلاّن (Ferdinand De Magellan) (1480-1521) العثور على طريق الهند من الغرب لصالح التّاج الإسباني، فاكتشف المضيق الذّي يحمل اليوم اسمه (مضيق ماجلاّن بين جنوب القارة الأمريكية وقارة الأنتركتيكا) ثمّ المحيط الهادي قبل بلوغ الفلبين حيث توفّي سنة 1521. وعاد من تبقّى من رفاقه إلى إسبانيا سنة 1522، محقّقين بذلك أوّل دورة حول العالم ممّا أثبت عمليّا الشّكل الكروي للأرض.
انطلق ماجلان يوم 20 سبتمبر 1519 من ميناء Sanlúcar de Barrameda على متن 5 مراكب. وقبل عبوره إلى المحيط الذّي أطلق عليه اسم الباسيفيكي لهدوء مياهه، يوم 28 نوفمبر 1520، بعد قطعه 530 كلم؛ كان ماجلان قد فقد سفينتين بسبب فتنة بحارته. وفي 8 مارس 1521 حلّ بجزيرة غوام Guam بأرخبيل الماريان Archipel des Iles Mariannes (أو جزر السارقين). وبعد 10 أيام اكتشف الفلبين. وحلّ يوم 7 أفريل بجزيرة كيبو Cebu وسط الفلبين. وعرض على ملكها التحوّل إلى المسيحية ومساعدته على إخماد ثورة الأهالي بجزيرة ماكتان Mactan المجاورة. لكنّه قتل يوم 27 أفريل 1521 أثناء كمين نُصب له.
ý وبعد حرق سفينة أخرى من الأسطول، تمكّن رفاق ماجلان بقيادة الملاّح الإسباني Juan Sebastián Elcano من إتمام رحلة الدّوران حول الأرض حيث حلّت سفينة القيادة Victoria بميناء اشبيلية يوم 6 سبتمبر 1522.
--------------------------------------------------------------------------------------
‌ج- الرّحلات الأخرى: ما أن ظهرت خيرات المستعمرات البرتغالية والإسبانية حتّى أخذت بقيّة الأقطار الأوروبيّة ترسل بحّاريها نحو الجهات المكتشفة.
فقد انطلقت محاولات التّعرّف على السّواحل الشّمالية لقارة أمريكا والبحث عن ممرّ شمال الأطلسي نحو بلاد الهند ومن أبرزها:
رحلة الإيطالي المقيم ببريستول في انقلترا جون كابوت (Jean cabot) أو (Giovanni Caboto) بين 1497 و1498.
رحلة الأخوين البرتغاليين جسبار وميغال كورت ريال (Gaspar & Miguel Corte Real) اللّذين عثرا على جزيرة غروينلاند (Groenland) الدّنماركية اليوم والأرض الجديدة (Terre Neuve) الكندية اليوم بين 1500 و 1502.
رحلة الإنقليزيين فروبيشار (Sir Martin Frobisher) (1535-1594) ودايفيس (Davis) أوّّل من شاهد قبائل الإسكيمو الكندية، و جون دايفيس (John Davis) (1550-1605) مستكشف سواحل غروينلاند شمالا (1585) وجزر المالوين جنوبا (1591) (محلّ نزاع بين بريطانيا والأرجنتين اليوم).

وعلى الرّغم من الأهميّة التّي اكتستها هذه الرّحلات، فقد بقيت عدّة مناطق من العالم مجهولة، ممّا يفسّر تواصل الحملات الإستكشافيّة طيلة القرنيين المواليين (XVII و XVIII) وقد قادها الهولنديون والبريطانيون والفرنسيون والرّوس وأدّت إلى التّعرّف على سواحل قارة أقيانوسيا وبعض جزر جنوب شرقي آسيا ومضيق بيرينغ (Béring) الفاصل بين أمريكا وآسيا [ من قبل الملاّح الرّوسي Semen Ivanovitch Dejnev سنة 1648 وعرضه 64 كلم ] وعبور سيبيريا.
3) النّتائج:
‌أ- وضع صورة أكثر دقّة واكتمالا للعالم: أعاد الأوروبيون النّظر في تصوّراتهم التّقليدية للعالم والإنسان. فقد أثبتت الرّحلات لهم الشّكل الكروي للأرض وأطلعتهم على العديد من الشّعوب والحضارات مثل الحضارات الأمريكية قبل الكولومبية (Civilisations américaines pré-colombiennes) : الإنكا والأزتاك والمايا.
--------------------------------------------------------------------------------------
الإنكا: Incas (أبناء الشّمس) لقب ملوك شعب الكيشوا quechua بوادي كوزكو Cuzco [ إسم العاصمة ] وسط جبال الآند في البيرو اليوم. وهي حضارة امتدّت من القرن XII إلى غاية سقوطها على يد الإستعمار الإسباني في منتصف القرن XVI. وبلغت ذروتها حوالي سنة 1525 زمنHuayna Capac الإمبراطور الحادي عشر حينما امتدّ ملكه على الجزء الأكبر من غرب القارة الأمريكية الجنوبية (3500 كلم طولا و800 كلم عرضا على كولومبيا والأكوادور والبيرو وبوليفيا والأرجنتين وبوليفيا) ولكن قبل وفاته سنة 1527 شهد قدوم المستعمر الإسباني Francisco Pizzaro إيذانا بسقوط الإمبراطورية وإن تأجّل ذلك إلى غاية القضاء على آخر أحفاده Túpac Amaru سنة 1572.
الأزتاك: Aztèques نسبة إلى أرض أسطورية (شمال المكسيك) تدعى Azatlán. ويدعى شعب الأزتاك بـLes Mexica. وقد استوطنوا وسط وجنوب المكسيك وأنجبوا حضارة ازدهرت بين القرنين XIV و XVI قبل أن يتمكّن الغازي Conquistador Hernán Cortés من السيطرة على العاصمة Tenochtitlan يوم 8 نوفمبر 1519.
المايا: Mayas نسبة إلى شعب المايا الذّي استوطن شبه جزيرة يوكاتان Yucatán بالمكسيك. ونتجت حضارة المايا عن التحام شعوب غواتيمالا والهندوراس وبليز والمكسيك في أمريكا الوسطى ألفا سنة قبل الميلاد. ومرّت بعدّة أطوار أهمّها الحقبة الكلاسيكية (250-900 بعد الميلاد) حين امتدّت خلالها على زهاء 325 ألف كلم2 وبُنيت أثناءها أكبر المراكز الدينية مثل Palenque وTikal و Copán قبل أن تنحصر في منطقة اليوكاتان وتقع تحت تأثير شعب التولتاك Toltèques من سهل مكسيكو (بين 900 و بداية القرن XVI). وقد ساهمت الحروب والأوبئة في اضمحلال هذه الحضارة. ولم يجد الإسبان عند قدومهم في مطلع القرن XVI صعوبة في إخضاع زعماء القبائل رغم استمرار تنظيمات المايا المستقلة عن الحكومة المكسيكية إلى غاية سنة 1901. وحضارة المايا من أعرق وأعظم الحضارات قبل الكولومبية. حيث ازدهرت بعماراتها (مثل أهرام أو مساطب الآلهة التّي تمّ تشييدها حوالي 300 ق.م) وتقنياتها في الري والفلاحة وفي صنع الفخار. وتتمحور ديانتها حول عبادة آلهات الطبيعة (Chac إله المطر،Itzamna إله السماء وزوجته Ixchel آلهة القمر والخصوبة).
--------------------------------------------------------------------------------------
‌ب- تكوين الإمبراطوريات الإستعماريّة: نشأ تنافس إستعماري بين الإمبراطوريتين الإسبانية والبرتغالية منذ تحوّل الرّحلات الجغرافية من الطّابع الإستكشافي إلى مرحلة الإحتلال. ففرض الحبر الأعظم (البابا) اسكندر VI Alexandre على الخصمين خطّا فاصلا بين ممتلكاتهما في العالم الجديد (4 ماي 1493)
[ على بعد 100 وحدة lieue غرب جزر الآسور والرأس الأخضر أي نحو 445 كم - 1lieue = env. 4 Km ]

ثمّ تمّ التوصّل إلى معاهدة تورديسياس (Tordesillas) سنة 1494 التّي قسّمت بينهما المناطق المكتشفة والتّي ستكتشف لاحقا

حيث أصبح خطّ الفصل على مسافة 370 وحدة غرب الرأس الأخضر أي نحو 1660 كلم (خطّ الطول 46°35’ غربا)

[وكانت بذلك أوّل اقتسام للعالم آنذاك] وقد صادق عليها البابا Jules II سنة 1506 قبل أن تعوّض باتفاقية سنة 1750:

الإمبراطورية البرتغالية: وكانت ذات طابع بحري أساسا وشملت الجزء الشّرقي من خط تقسيم تورديسياس. واعتمدت على إقامة مصارف بحريّة على سواحل افريقيا وآسيا وعلى اكتساب ممتلكات بالبرازيل.
الإمبراطورية الإسبانيّة: وكانت ذات طابع قاري حيث امتدّت على الأراضي الواقعة غرب خطّ التّقسيم. وقد انتهج الإسبان سياسة استعماريّة توطينيّة متشدّدة حيث استهدفت القضاء على الحضارات قبل الكولومبية ونهب ثرواتها وإبادة شعوبها (السكّان الأصليين Les indigènes). فقد تراجع سكّان المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية بنسبة -0,21% (بين 1500 و1700) وترجّح حسابات (Cook & Borah) الدّقيقة من مدرسة بركلي الدّيمغرافية أنّ تعداد الهنود في المكسيك قد تراجع من 25 مليون سنة 1519 إلى 1 مليون سنة 1605 وأنّ تعداد البيرو تراجع من 10 ملايين سنة 1530 إلى 3 ملايين بعد 50 سنة (1580). وأُبيد نحو 80% من الذّكور في بعض المناطق الآندية خلال 30 سنة (Rouquié 56-57). وعموما وخلال القرن XVI (1500-1600) تراجع سكّان أمريكا اللاّتينية بمقدار النّصف (2/1) من 17,5 مليون إلى 8,6 مليون وسكّان المكسيك بمقدار الثلثين (3/2) من 7,5 مليون إلى 2,5 مليون وسكّان جزر الكراييب بمرّتين ونصف (2,5 مرّة) من 500 ألف إلى 200 ألف نسمة؛ بينما تراجع سكّان أمريكا الشّمالية بأكثر من الربع (28%) من 2,250 مليون إلى 1,750 مليون نسمة.
ولتعويض النّقص الحاصل في عمالة المزارع والمناجم، أضطرّ الغُزاة إلى استجلاب العبيد السّود من إفريقيا. فقد تدفّق 9,391 مليون زنجي على الأمريكيتين بين 1500 و 1870 منهم 3,647 مليون نحو البرازيل (38,83%). إلى جانب 2,173 مليون مهاجر أوروبي (1500-1820) استقرّ ثلثهم (33,04%) في الولايات المتحدة الأمريكية.
وقد أثارت هذه السّياسة ردود فعل متباينة: فبينما برّرها ودافع عنها غلاة الإستعمار الإسباني المتعصّبون أمثال فرانسيسكو بيزارو(Francesco Pizzaro) (1475-1541) وهرنار كورتاز (Hernán Cortés) (1485-1547) الوالي العام للمكسيك (اسبانيا الجديدة)؛ ناهضها بعض مفكّري عصر النّهضة أمثال الفرنسي مونتانيي (Montaigne) (1533-1592) وبعض رجال الدّين أمثال الإسباني برتولومي دي لاس كازاس (Bartolomé De Las Casas) (1474-1560).

‌ج- دعم قوّة أوروبا الغربيّة ومكانتها العالميّة: ساهم تدفّق ثروات المستعمرات في تنشيط الدّورة الإقتصاديّة بدول أوروبا الغربيّة وتطوّرت المعاملات النّقدية بفضل تهاطل المعادن الثّمينة حيث برزت أشكال جديدة للدّفع والقرض والتّامين. فقد تضاعف النّاتج الدّاخلي الخام لدول أوروبا الغربية حيث إرتفع من 44,162 مليار دولار سنة 1500 (بدولار قياسي لسنة 1990 وفق حسابات Geary-Khamis) إلى 81,302 مليار دولار سنة 1700. وتقوّضت الهياكل التّقليدية للإقتصاد الأوروبي وتراجعت أهميّة الثّروات العقارية لصالح الأرباح التّجارية فنشأت بذلك الماركانتيلية (الرّأسمالية التّجارية). وأتاح الثّراء المتنامي للفئات المتاجرة بروز البرجوازية التّجارية.
وتحسّن الوضع الصحّي للسكّان فتزايد عددهم من 57,268 مليون (سنة 1500) إلى 81,400 مليون (سنة 1700) بمعدّل نموّ سنوي قدره 0,18% مقابل 0,06% (بين 0 و1500). ونشأت المراكز الحضريّة الضّخمة مثل مدريد (110 ألف نسمة سنة 1700 مقابل لاشيء سنة 1500) لشبونة (165 الف مقابل 30 ألف) وإشبيلية (96 ألف مقابل 25 ألف) ثمّ أمستردام (200 ألف مقابل 14 ألف) وأنفارس (70 ألف مقابل 40 ألف) ولندن (575 ألف مقابل 40 ألف) (بعد انقضاء القرن XVI).
وارتفعت نسبة التحضّر [ نسبة القاطنين في مدن يزيد تعدادها على 10.000 نسمة من مجموع السكّان ] من 6,1% (سنة 1500) إلى 9,9% (سنة 1700).
وتدعّمت القوّة العسكريّة للأوروبيين فعملوا على تعزيز حضورهم خارج القارة وإخضاع المجال العربي الإسلامي مثل نظيره الآسيوي للهيمنة الإقتصادية والتّجارية الأوروبية، في حين مثّلت القارة السّوداء (إفريقيا) خزّانا ديمغرافيا اُستعبد سكّانه عبر استغلالهم في استخراج معادن القارة الأمريكية وتطوير مزارع السّكر الأنتيلية (Les sucreries Antillaises). فتشكّلت بذلك الملامح الأولى لنظام "الإقتصاد-العالم" (Ecomnomie-Monde).
‌د- بروز موانئ الواجهة الأطلسيّة: عادت المبادرة في حركة التوسّع التّي رافقت الإكتشافات الجغرافية إلى الدّول الأوروبية المطلّة على الأطلسي. فاكتسى هذا المحيط أهميّة متزايدة وتحوّلت المدن المطلّة على ساحله مثل لشبونة وغيرها من الحواضر إلى مخازن أساسية في حركة إعادة توزيع أو تصدير البضائع والمنتوجات التّي كانت تدرّها المستعمرات.
وفي المقابل، تقلّص بشكل واضح دور المدن-الدّول الإيطالية مثل البندقية وجنوة في التّجارة العالمية وتلاشى دور الوساطة الذّي لعبه التّجار العرب بتراجع أهميّة التّجارة المتوسّطية لصالح التّجارة عبر الأطلسي. فقد تراجع تعداد سكّان البندقية من 139 ألف (سنة 1600 إلى 138 ألف سنة 1700) ونابولي (من 281 ألف إلى 216 ألف) كما تقلّصت واردات البندقية من 1.600 طن/سنة في نهاية القرن XV إلى أقلّ من 500 طن/سنة خلال العقد الأوّل من القرن XVI. (وفق تقديرات Lane,1966).
ولئن حافظ المتوسّط على جانب من أهميّته فيما يتّصل بتجارة الحبوب؛ فإنّ تلك الأهميّة قد تراجعت فيما يتعلّق بتجارة التّوابل والذّهب (من آسيا وإفريقيا). وسجّل المحيط الأطلسي تفوّقه في تجارة الزّراعات المضاربيّة (السكّر والقهوة والكاكاو والتّبغ من مزارع جزر بحر الكراييب الأنتيلية والبرازيل) وفي تجارة العبيد الأفارقة. وهو ما أذن بظهور التّجارة المثلّثة الرّابطة بين القارات الثّلاث المطلّة على المحيط الأطلسي.

الخاتمة: تعدّ الإكتشافات الجغرافية تحوّلا هامّا في تاريخ الإنسانيّة فهي إيذانا ببداية العصر الحديث وإنطلاق حركة النّهضة في أوروبا.
 
لتحميل ملحق الدّرس اضغط هنا pdf_sm

ليست هناك تعليقات: